نماذج المشاركة الفدراليّة في السّلطة
المعهد الدّيمقراطي الوطني، بيروت
نماذج المشاركة الفدراليّة في السلطة
Models of Federal Power Sharing
رونالد ل. واتس
Ronald L. Watts
المحتويــاتContents
1- المقدّمة: تحدّي إدارة التنوّع 2
2- النماذج المؤسّساتيّة الفدرالية الكبرى 3
الاتّحادات 4
الاتّحادات اللامركزيّة دستوريّاً 4
الاتّحادات الفدراليّة 5
الاتّحادات الكونفدراليّة 5
العصبات 5
الدّول الشّريكة 6
أنظمة الحكم المشترك 6
الأحلاف 6
السّلطات الوظيفيّة المشتركة 6
الأنظمة الهجينة 6
3- التّفاوتات بين الاتّحادات الفدراليّة 7
4- القضايا الطّارئة أثناء تصميم الاتّحادات الفدراليّة
والمؤثّرة على سيرها 9
عدد الوحدات المكوّنة وطابعها 9
توزيع السّلطتين التّشريعيّة والتّنفيذيّة 10
التّناسق أو اللاتناسق في توزيع السّلطات على الوحدات المكوّنة 11
طبيعة المؤسّسات الفدراليّة العامّة 12
دور المحاكم 13
الحقوق الدّستوريّة 13
العلاقات الحكوميّة الدّولية 14
5- الاستنتاجات 15
1- المقدّمة: تحدّي إدارة التنوّع
Introduction: The Challenge of Managing Diversity
أدّت التّطوّرات الحديثة في وسائل النّقل، والاتّصالات الاجتماعيّة، والتّنظيم التّقني والصّناعي، إلى ضغوطاتٍ داعية إلى إنشاء منظّماتٍ سياسيّة كبيرة، وأخرى أصغر حجماً في الوقت نفسه. وقد انبثق ضغط إنشاء الوحدات السياسيّة الكبرى نتيجةً للأهداف المشتركة بين معظم المجتمعات الغربيّة وغير الغربيّة اليوم: أي الرّغبة في التّقدّم، ومستوى المعيشة المتصاعد، والعدالة الاجتماعية، والتأثير في ميدان التّنافس العالمي، والوعي المتزايد لتكافل دول العالم بعضها مع بعض، في عصرٍ أمست فيه التّقنية المتطوّرة تتمتّع بقدرةٍ على الدّمار الشّامل والإعمار الشّامل أيضاً. أمّا الرّغبة في إنشاء وحداتٍ سياسية ذاتيّة الحكم وأصغر حجماً، فقد نتجت عن السّعي لجعل الحكومات أكثر استجابةً للمواطن الفرد، والسّماح للارتباطات الجماعية الأساسيّة بالتّعبير عن نفسها– من حيث الرّوابط اللّغوية والثّقافية، والاتّصالات الدّينية، والتّقاليد التّاريخية والممارسات الاجتماعية- لا سيّما وأنّها ترسي قاعدةً مميّزة لحسّ الجماعة بهويّتها وتوقها إلى تقرير المصير. وبالنّظر إلى هذه الضّغوطات الثّنائيّة المتزامنة التي تجتاح أنحاء العالم، ليس من العجب إن أصبح عددٌ متزايدٌ من النّاس يتصوّر شكلاً من أشكال النّظام السياسي الفدرالي- يجمع بين حكومةٍ مشتركة تؤدّي بعض الأهداف العامّة المحدّدة من جهةٍ، وتحرّكٍ مستقل تقوم به حكومات الوحدات المكوّنة لتحقيق أهدافٍ مرتبطة بالمحافظة على تميّزها الإقليمي من جهةٍ أخرى– يسمح بالتقدير المؤسّساتيّ الأقرب إلى واقع تعدّد القوميّات في العالم المعاصر. في مثل هذا السيّاق، لا تهدف الأنظمة السياسية الفدرالية إلى القضاء على التّنوّع، بل إلى التّوفيق بين الفروقات الاجتماعية، ومصالحتها، وإدارتها ضمن حكومةٍ مشتركة بين الجميع.
وقد اشتدّت الحاجة إلى مثل هذه المصالحة مع نهاية القرن العشرين، بسبب العالميّة المتزايدة للاقتصاد التي حرّرت، هي نفسها، القوى الاقتصاديّة والسياسيّة المعزّزة للضّغوطات المحليّة وتلك المتخطّية الحدود القوميّة، على حساب دولة القوميّة الواحدة التّقليديّة. وقد أيقظت تقنيّة الاتّصالات العالميّة ومفهوم الاستهلاكيّة رغباتٍ دفينة من كبوتها، داخل أصغر القرى وأكثرها نأياً حول العالم، من أجل الوصول إلى سوق السّلع والخدمات العالمية. نتيجةً لذلك، أخذت الحكومات تصطدم أكثر فأكثر برغبات النّاس في التّحوّل إلى مستهلكين عالميّين ومواطنين محليّين في الوقت عينه. وقد أطلق توم كورشين على هذا الميل اسم "عولمة-مَركَزَة" (Glocalization) [وهي ابتكار السّلع والخدمات من أجل السّوق العالميّة، مع تعديلها لتلائم الثّقافة المحليّة]. من هنا، فقد أثبتت دولة القوميّة الواحدة نفسها أنّها أصغر من أن تلبّي كلّ رغبات مواطنيها، وأكبر من ذلك في الوقت نفسه أيضاً. ونظراً لتطوّر اقتصاد السّوق العالمي، فقد ساد اعترافٌ واسع بأنّ الدّولة القوميّة المكتفية ذاتيّاً لا يمكن تحقيقها، وأنّ السيادة بالاسم ليست مغرية إلى هذا الحدّ إن عنت، في الواقع، أنّ النّاس يتحكّمون بنسبةٍ أقل بالقرارات التي تؤثّر عليهم أبلغ تأثير. وفي الوقت نفسه، باتت الدّولة القوميّة بعيدة جدّاً عن المواطنين الأفراد، بشكلٍ لا يمكّنها من تأمين نوعٍ من التّحكم الدّيمقراطي المباشر، والاستجابة بشكلٍ واضح لمخاوف مواطنيها وتفضيلاتهم المحدّدة. في هذا الإطار، ظهرت الفدراليّة بمستوياتها الحكومية المختلفة لتقدّم طريقةً لإيجاد موقع وسط لتنوّع تفضيلات المواطنين العالميّة والمحليّة.
نتج عن ذلك اهتمامٌ معاصر ومتزايد بالفدراليّة، تعكسه الأعداد المتكاثرة من المجلات والمنظّمات الأكاديمية التي تركّز على دراستها. فقبل خمسة وعشرين عاماً، لم تكن قد ظهرت في السّاحة الدّوليّة إلا مجلة واحدة، ومركزان للأبحاث المتعلّقة بالفدراليّة في العالم. أمّا اليوم، فالمجلات عديدة؛ وأصبح اجتماع الجمعية العالمية لمراكز الدّراسات الفدرالية (IACFS)، المنعقد سنوياً، يضمّ ثلاثة وعشرين مركزاً ومعهداً، في خمس عشرة دولة، على امتداد خمس قارّات. فضلاً على ذلك، شكّلت الجمعية العالمية للعلوم السياسيّة، منذ أكثر من عقدٍ، لجنة أبحاث حول الفدراليّة المقارنة والاتّحاد الفدراليّ. ومن بين المجالات التي درستها هذه الأعمال الأكاديمية: أصناف التّنوّع ودرجاته ضمن المجتمعات الفدرالية، والاختلافات بين التّنوّع الإقليمي وغير الإقليمي، والوقع المتفاوت للالتقاءات وللانشقاقات الاجتماعية المتزايدة والعزِّزة بتراكمها، ووقع القوميّة الإثنية، والمميّزات الخاصّة بالمجتمعات ذات القطبين، والميل إلى التّدابير غير المتناسقة ضمن الاتّحادات الفدراليّة ، والعدد المتزايد للاتّحادات الكونفدراليّة، والتّدابير المالية الفدرالية، ودور الأحزاب السياسيّة في الأنظمة الفدرالية. فتؤثّر هذه العوامل كلّها في محاولات الأنظمة السياسية الفدرالية للتّوفيق بين حالات التّنوّع الاجتماعي.
2- النماذج المؤسّساتيّة الفدرالية الكبرى
Major Federal Institutional Models
توخيّاً للإيضاح، نميّز بين مصطلحاتٍ ثلاثة هي: "الفدرالية"، و"الأنظمة السياسيّة الفدراليّة"، و"الاتّحادات الفدراليّة".
"الفدراليّة" ليست بمصطلحٍ وصفيّ، بل معياريّ. وهي تشير إلى مدافعة الحكومة المتعدّدة الطّبقات التي تجمع بين عناصر من الحكم المشترك، والحكم الذّاتي الإقليمي. وتستند الفدراليّة إلى القيمة المسلّم بها والقائمة على بلوغ الوحدة والتنوّع في آن، عبر التّوفيق بين الهويّات المتميّزة وحمايتها وتعزيزها ضمن وحدةٍ سياسية أوسع.
"الأنظمة السياسية الفدراليّة" مصطلح وصفيّ يُطبّق على فئةٍ واسعة من الأنظمة السياسيّة التي تضمّ مستويين (أو أكثر) في الحكومة، بعكس مصدر السّلطة المركزية الوحيد في الأنظمة المركزيّة. وتجمع الأنظمة السياسيّة الفدراليّة بين عناصر من الحكم المشترك من خلال المؤسّسات المشتركة، وعناصر من الحكم الذّاتي من خلال الوحدات المكوِّنة. وتشمل هذه الفئة الواسعة سلسلةً كاملة من الصّيغ غير المركزية الأكثر تحديداً، بما في ذلك "الاتّحادات الفدرالية" و"الاتّحادات الكونفدراليّة".
بإمكاننا، في نطاق الأنظمة السياسيّة الفدراليّة، أن نحدّد النّماذج التّالية المتضمنة عناصر من المشاركة الفدراليّة في السّلطة:
الاتّحادات(Unions): إنّها أنظمة سياسيّة مركّبة بطريقة تجعل وحداتها المكوِّنة تحمي تماميّتها، بشكلٍ أساسيّ أو حصريّ من خلال الهيئات المشتركة في الحكومة العامة وليس من خلال البنى الحكوميّة الثّنائيّة. وقد شكّلت بلجيكا مثالاً على ذلك قبل أن تنحو نحو الفدراليّة عام 1993 (حين كُلّف المشرّعون المركزيّون عملاً ثنائيّاً كمستشارين إقليميّين أو ضمن الجماعة، عدا مهمّتهم الأساسية)؛ أمّا المثال الآخر فهو دور اسكوتلندا وويلز في المملكة المتّحدة قبل تفويض السّلطة من الحكومة المركزيّة إلى السّلطات المحليّة. فصحيحٌ أنّ هذه الأنظمة تعترف بالتنوّع، لكنّها لا توفّر أيّة فرصة للحكم الذّاتي الإقليمي المستقل.
الاتّحادات اللامركزيّة دستوريّاً(Constitutionally Decentralized Unions): تعتبر هذه الاتّحادات، في الأساس، مركزيّة شكلاً؛ بمعنى أنّ السّلطة الدّستوريّة العليا تُسنَد إلى الحكومة المركزيّة. غير أنّها توفّر وحداتٍ فرعيّة في الحكومة، محميّة دستوريّاً، ومتمتّعة بنوعٍ من الاستقلاليّة الوظيفيّة. في هذا السياق، الرّجاء العودة إلى الجدول 1 للأمثلة. صحيحٌ أنّ الأنظمة المماثلة تنهض بأعباء الحكم الذّاتي الإقليمي أو المحلّي، إلا أنّها ستكون سريعة التّأثر في النّهاية إزاء السّلطة الدّستوريّة الطّاغية للحكومة المركزيّة.
الاتّحادات الفدراليّة(Federations): إنّها أنظمة حكم سياسيّة مركَّبة تجمع بين وحداتٍ قويّة مكوِّنة للحكومة، وحكومةٍ عامّة قويّة، مع تمتّع كلّ جانبٍ بالسّلطات التي يوكلها إليه الشّعب من خلال الدّستور، وامتلاكه الصّلاحية للتّعامل مع المواطنين مباشرةً عبر ممارسته لسلطاته التّشريعية والإداريّة والضّرائبيّة. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ كلّ جانبٍ ينتخبه مواطنوه مباشرةً، فيكون مسؤولاً أمامهم. في الوقت الرّاهن، يبلغ عدد الدّول التي تفي بالمعيار الأساسي للاتّحاد الفدرالي حوالى أربع وعشرين (وهي مذكورة في الجدول 1)، رغم أنّ دستوري جنوب أفريقيا وإسبانيا لم يعتمدا تسمية "الاتّحاد الفدرالي". إذاً تسبغ الاتّحادات الفدراليّة سلطةً معيّنة على الحكومة العامة القويّة والحكومة الإقليمية القويّة أيضاً، وكلتاهما مساءلتان أمام مواطنيهما مباشرةً، إلا أنّ ذلك يسري على حساب بعض النّزعات المائلة نحو التّعقيد والالتزامات القانونيّة.
الاتّحادات الكونفدراليّة(Confederations): تقع هذه الحالة عندما تتّحد أنظمة حكم سياسيّة تشكيلاً لحكومة مشتركة، وخدمةً لبعض الأهداف المحدّدة كالأهداف الدّفاعية أو الاقتصادية. غير أنّ الحكومة المشتركة تبقى معتمدة على الحكومات المكوّنة. ففي الاتّحادات الكونفدراليّة، لا تملك الحكومة المشتركة إلا قاعدةً انتخابية أو مالية غير مباشرة، نظراً إلى أنّ الحكومات الأعضاء تتصرّف كوسيطٍ بين الحكومة المشتركة والمواطنين. بالمقارنة مع الوحدات المكوّنة في الاتّحادات الفدرالية، يعزّز هذا النّظام استقلالية الحكومات الأعضاء، لا سيّما وأنّه يفرض موافقتها على السياسات المشتركة العامة كلّها قبل سريان مفعولها. إلا أنّ ذلك يعني، في الوقت نفسه، أنّ موقف الحكومة المشتركة أضعف بالنّسبة للتعامل الحاسم مع المواضيع المثيرة للنّزاع، أو إعادة توزيع الموارد. في هذا الإطار، يذكر التّاريخ مثالَيْ سويسرا في أغلب الحقبة الممتدّة من 1291 إلى 1847، والولايات المتّحدة من 1776 إلى 1789، وقد خَلَفَ الاتّحاد الفدراليّ النّظام السّائد في كلا هذين البلدين. أمّا الأمثلة المستوحاة من العالم المعاصر، فمُدرجة في الجدول 1. وتجدر الإشارة إلى أنّ الاتّحاد الأوروبي يُعَدّ اتّحاداً كونفدرالياً في المقام الأوّل، رغم أنّه يدمج بشكلٍ متزايد بعض مزايا الاتّحاد الفدرالي.
العصبات(Federacies): تتشكّل العصبات حين ترتبط وحدةٌ كبيرة بوحدةٍ أو وحدات أصغر، مع احتفاظ الوحدة الصّغرى باستقلالٍ أساسيّ، وبدورٍ أدنى في حكومة الوحدة الكبرى، ومع إمكانيّة حلّ العلاقة بموجب اتّفاقٍ ثنائيّ وحسب. ومن الأمثلة على تلك الحالة العلاقة بين بورتوريكو والولايات المتّحدة، وغيرها من الأمثلة المذكورة في الجدول 1. فمن شأن هذه التّدابير أن تضمن مستوىً عالياً من الاستقلاليّة بالنّسبة للوحدة الصّغرى، لكن على حساب امتلاكها تأثيراً فعّالاً ضئيلاً على سياسات الوحدة الكبرى.
الدّول الشّريكة(Associated States): تحاكي هذه العلاقات تلك التي تفرضها العصبات، لكن يمكن أن تحلّها أيٌّ من الوحدتين اللتين تعملان كلّ على حدة، وفقاً للشّروط المتّفق عليها سلفاً. نتيجةً لذلك، يعتبر استقرار هذه التّدابير أقل أماناً. والأمثلة على ذلك مدرجة في الجدول 1.
أنظمة الحكم المشترك(Condominiums): وهي تعكس العلاقات حيث تعمل وحدةٌ سياسية بشكلٍ يخضعها للحكم المشترك لدولتين خارجيتين أو أكثر، على أن يتمتّع السّكان بحكمٍ ذاتيّ داخليّ أساسيّ. ومن الأمثلة على ذلك إمارة آندورا التي أدارت شؤونها في ظلّ الحكم المشترك لفرنسا وإسبانيا من عام 1278 إلى عام 1993.
الأحلاف(Leagues): وهي تمثّل ارتباطات لأهدافٍ محدّدة بين الأنظمة السياسيّة المستقلة سياسيّاً التي تدير شؤونها من خلال أمانة سرّ مشتركة، عوضاً عن حكومة. ويمكن لأعضائها أن ينسحبوا منها من جانبٍ واحد. ويذكر الجدول 1 الأمثلة، ومنها حلف شمال الأطلسي (النّاتو).
السّلطات الوظيفيّة المشتركة(Joint Functional Authorities): وهي وكالاتٌ يؤسّسها نظامان أو أكثر من أجل التّطبيق المشترك لمهمّة أو مهامّ معيّنة. والأمثلة على ذلك عديدة، ومنها: منظّمة شمال الأطلسي لصيد السّمك (NAFO)، والوكالة الدّوليّة للطّاقة الذريّة (IAEA)، ومنظّمة العمل الدّوليّة (ILO). ويمكن أن تتّخذ هذه السّلطات الوظيفيّة المشتركة شكل منظّمات عبر الحدود، تؤسّسها الحكومات الوطنيّة الفرعيّة المتجاورة، كالتجمّع ما بين الولايات من أجل التّطوّر الاقتصادي الذي يشمل أربع مناطق في إيطاليا، وأربعة أقاليم في أستراليا، وجمهوريّتين يوغوسلافيتين، ومقاطعة واحدة في ألمانيا الغربية تأسّست عام 1978؛ وتجمّع "ريدجيو بازيليانسيس" ما بين الولايات وهو يشمل التّعاون السويسري والألماني والفرنسي في منطقة "بازيل".
الأنظمة الهجينة(Hybrids): تجمع بعض الأنظمة السياسيّة صفاتٍ من نماذج مختلفة. فمن الأنظمة ما وصف أحياناً بأنّه "شبه اتّحاد فدراليّ"، نظراً إلى أنّ الطّابع الفدراليّ يغلب على بنيته ووظائفه الدّستوريّة، إلا أنّ سلطاته الحكومية الفدراليّة المهيمنة هي أجدر بالنّظام المركزيّ. وتتضمّن الأمثلة على ذلك كندا التي كانت أساساً اتّحاداً فدراليّاً عام 1867 مع اعتمادها لبعض السّلطات الفدرالية المهيمنة، إلا أنّ هذه الأخيرة ما لبثت أن باتت مهملة في النّصف الثّاني من القرن العشرين. وتعتبر الهند وباكستان وماليزيا اتّحاداتٍ فدراليّة بغالبيّتها، إلا أنّ دساتيرها قد اعتمدت بعض الصّلاحيات المركزيّة المهيمنة الطّارئة. ومن الأمثلة الأحدث، نذكر دستور جنوب أفريقيا عام 1996 الذي تمتّع بمعظم مميّزات الاتّحاد الفدرالي، لكنّه احتفظ ببعض المزايا المركزية. ومن الأنظمة الهجينة أيضاً ذاك الذي يجمع بين مميّزات الاتّحاد الكونفردالي والاتّحاد الفدرالي. والمثال الأبرز على ذلك هو الاتّحاد الأوروبي بعد معاهدة ماستريخت، وهو اتّحاد كونفدرالي أساساً لكنّه يملك بعض مميّزات الاتّحاد الفدرالي. أمّا ألمانيا، فقد كانت اتّحاداً فدراليّاً في الغالب منذ العام 1949، غير أنّ مجلسها الفدرالي الثّاني (البُندسرات) يمثّل عنصراً كونفدرالياً. وتتكرّر ظاهرة الأنظمة الهجينة عندما يبدي رجال الدّولة اهتماماً بالحلول السياسيّة العمليّة، عوضاً عن الحلول النّظرية المحض.
يرتبط تطبيق أيٍّ من هذه النّماذج بالظّروف الخاصّة بكلّ حالة. وتتألّف العوامل التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار من طبيعة محفّزات الأعمال العامّة والحكم المشترك وقوّتها، وحدّة الضّغوطات وتوزّعها، ومحفّزات الوحدات الأعضاء تجاه السياسات المستقلة والحكم الذّاتي.
3- التّفاوتات بين الاتّحادات الفدراليّة
Variations Among Federations
تمثّل الاتّحادات الفدراليّة، ضمن سلسلة النّماذج التي يمكن وصفها "كأنظمةٍ سياسيّة فدراليّة"، نموذجاً فريداً من نوعه. أمّا الصفة المميّزة والمحدّدة لهذا النّموذج، فهي عدم خضوع أيٍّ من الحكومة الفدرالية والوحدات المكوّنة للحكومة، في الاتّحاد الفدرالي، لسلطة الأخرى دستوريّاً. بالفعل، يتمتّع كلّ نظامٍ حكوميّ بسلطاتٍ سياديّة يحدّدها له الدّستور، عوضاً عن أيّ مستوى حكوميّ آخر؛ وهو مخوّل التّعامل مع مواطنيه مباشرةً خلال ممارسة سلطاته التّشريعيّة والتّنفيذيّة والضّرائبيّة؛ وينتخبه مواطنوه مباشرةً فيكون مساءلاً أمامهم.
أمّا المميّزات البنيوية المشتركة العامة للاتّحادات الفدرالية، فهي التّالية:
- نظامان حكوميّان على الأقل يديران شؤون مواطنيهما مباشرةً؛
- توزيع دستوريّ رسمي للسّلطتين التّشريعيّة والتّنفيذيّة، وتقسيم موارد الدّخل بين نظم الحكومة بما يضمن نوعاً من الاستقلال الحقيقيّ لكلّ نظام؛
- بند شرطيّ من أجل التّمثيل الواضح للآراء الإقليميّة المختلفة ضمن المؤسّسات الفدراليّة الواضعة للسياسات، وهو يتضمّن عادةً تمثيل الممثّلين الإقليميّين في المجلس التّشريعي الفدرالي الثّاني؛
- دستور أعلى لا يمكن تعديله من جانبٍ واحد، ويفرض تعديله موافقة نسبة مهمّة من الوحدات المكوّنة، عبر موافقة إمّا هيئاتها التّشريعيّة وإمّا الأكثريّة الإقليميّة في استفتاءٍ شعبيّ؛
- حَكَم مرجّح، يتّخذ عادةً شكل المحاكم أو عن طريق تأمين إجراء الاستفتاءات الشّعبيّة (كما في سويسرا بالنّسبة للسّلطات الفدراليّة)، من أجل إصدار حكمٍ في النّزاعات حول صلاحيّات الحكومات الدّستوريّة؛
- العمليّات والمؤسّسات الهادفة إلى تسهيل التّعاون الحكومي الدّولي في تلك المناطق حيث تعتبر السّلطات الحكوميّة مشتركة أو متشابكة لا محالة.
إنّ تحديد مدى ملاءمة الاتّحاد الفدراليّ كنموذج صالح للتّوفيق بين المجموعات المتنوّعة وإدارتها، في ظرفٍ معيّن، يرتبط بمدى التزام التّنوع الاجتماعي بالمميّزات المؤسّساتية في الاتّحاد الفدرالي كما حدّدت سابقاً.
ويمكن أن يرتبط تطبيق نظام الاتّحاد الفدراليّ كحلّ سياسيّ بالشكل الخاصّ للاتّحاد الفدراليّ المعتمد. وكما تدلّ الاختلافات بين الاتّحادات الفدراليّة الموجودة، تجدر الإشارة إلى اتّساع مجال التّفاوتات ضمن إطار العمل الأساسي المحيط بالمميّزات المحدّدة مسبقاً، بصفتها مشتركة بين الاتّحادات الفدراليّة. وتتضمّن هذه التّفاوتات: التّفاوتات في عدد الوحدات الإقليميّة المكوّنة، ونسبة سكّانها وموقعها، وثروتها النّسبية؛ والتّفاوتات في درجة التّجانس الإثني بين الوحدات الإقليمية وضمن كلّ وحدة إقليميّة؛ والتّفاوتات في درجات المركزية واللامركزية وانعدام المركزية في السّلطات والمسؤوليّات الملقاة على عاتق النّظم الحكوميّة المختلفة، والموارد المتوفّرة لها؛ والتّفاوتات في درجة التّناسق واللاتناسق أثناء توزيع الصّلاحيات أو الموارد على الوحدات المكوّنة؛ والتّفاوتات في طابع المؤسّسات الفدراليّة، سواء كانت رئاسيّة أو برلمانية أو متساوية التشارك في السلطة من حيث الشّكل، مع تضمين التّدابير اللازمة لاختيار أعضاء المجلس الفدرالي الثّاني وتحديد تركيبته وسلطاته؛ والتّفاوتات في بنية السّلطة القضائيّة ونطاقها ودور المراجعة القضائيّة؛ والتّفاوتات في المؤسّسات والإجراءات التي تسهّل الاستشارات والتّعاون ما بين الحكومات. من هنا، يجب الإقرار بعدم وجود نموذج مثاليّ أو صافٍ واحد، حتّى ضمن الاتّحادات الفدراليّة. فالتّفاوتات الحاصلة كثيرة، والصّيغة الخاصّة المناسبة في وضعٍ معيّن قد تختلف وفقاً لطبيعة التّنوع الاجتماعي الواجب تكييفه، ومداه.
4- القضايا الطّارئة أثناء تصميم الاتّحادات الفدراليّة والمؤثّرة على سيرها
Issues in the Design Of Federations That Affect Their Operation
عدد الوحدات المكوّنة وطابعها: لعدد الوحدات المكوّنة وموقعها وسكّانها وثروتها النّسبية، بالنّظر إلى علاقاتها في ما بينها ضمن اتّحادٍ فدراليّ، تأثيرٌ هائل على عمل الاتّحاد الفدرالي. فحيثما يكون عدد الوحدات كبيراً نسبيّاً، أي 89 على سبيل المثال في الاتّحاد الفدرالي الرّوسي، أو 50 في الولايات المتّحدة، من الأرجح أن يقلّ نفوذ الوحدات المكوّنة الفردية وقوّتها السياسيّة بشكلٍ ملحوظ، عمّا كانا ليكونان عليه في الاتّحادات الفدرالية ذات الوحدات السّت (كأستراليا وبلجيكا)، أو المقاطعات العشر (ككندا). بالإضافة إلى ذلك، بدا أنّ الاتّحادات الفدراليّة المكوَّنة من وحدتين وحسب (مثل الباكستان وتشيكسلوفاكيا قبل انفصال كلٍّ منهما) قد ولّدت نزاعاتٍ حادّة ذات قطبين تؤدّي غالباً إلى عدم الاستقرار. وحيثما تكون التّفاوتات أساسيّة بين الوحدات المكوّنة من حيث الموقع والسّكان، قد يشكّل ذلك مصدراً للشّقاق حول النّفوذ النّسبي الذي تتمتّع به مناطق معيّنة في وضع السياسات الفدراليّة. ففي بعض الحالات، لا سيّما الهند ونيجيريا، تمّ تعديل الحدود الإقليمية من أجل تقليص هذه التّفاوتات، وجعل الوحدات الإقليميّة تتّفق أكثر مع الكتل الإثنية أو اللّغوية المركّزة. أمّا التّفاوتات من حيث الثّروة بين الوحدات الإقليميّة، فتصعّب على المواطنين الاستفادة من الخدمات المتساوية، وتملك تأثيراً مفتّتاً للتضامن في ظلّ الاتّحاد الفدرالي، ممّا يفسّر سبب الرّغبة الشّديدة التي راودت بعض الاتّحادات الفدراليّة في نوعٍ من التّسوية المالية.
خلال التّفكير في طابع الوحدات المكوّنة، تنبري مسألتان إضافيّتان تنبغي دراستهما. فقد جرت العادة أن تلقى الاتّحادات الفدراليّة، بصفتها شكلاً من أشكال التّنظيم السياسي الإقليمي، مجالاً تطبيقيّاً واسعاً في الإقليم حيث تتركّز المجموعات المتنوّعة، كما يبدو. ويهدف ذلك إلى تمكين المجموعات المتميّزة من ممارسة استقلاليّتها عبر وحداتٍ إقليميّة من الحكم الذّاتي. أمّا تشارُك المجموعات المتميّزة غير الإقليميّة في السّلطة (أي تلك الموزّعة عبر سائر أنحاء البلد عوض تركّزها في مناطق إقليمية محدّدة)، فقد ارتبط عموماً بشكلٍ اتّحاديّ من أشكال التّنظيم السياسيّ، حيث تؤثّر المجموعات المختلفة على السياسة من خلال ممثليها في حكومةٍ مركزيّة، في المقام الأوّل. لكن حين أصبحت بلجيكا اتّحاداً فدرالياً عام 1993، فقد قدّمت تجربةً مثيرةً للاهتمام، حيث شكّلث ثلاث "مناطق" إقليمية وثلاث "جماعات" غير إقليميّة وحدات حكومية تتمتّع بالحكم الذّاتي ضمن الاتّحاد الفدرالي.
ومن التّطوّرات الأخيرة الجديرة بالملاحظة هو عدد الاتّحادات الفدراليّة التي أصبحت، بدورها، وحداتٍ مكوّنة ضمن منظّمةٍ فدراليّة أو كونفدراليّة أوسع، ممّا أدّى بالتّالي إلى إنشاء منظّمةٍ فدراليّة متعدّدة الطّبقات. ولعلّ المثال الأبرز على ذلك هو الاتّحاد الأوروبي الذي يضمّ بين أعضائه أربعة اتّحاداتٍ فدراليّة مخضرمة، هي: النّمسا وبلجيكا وألمانيا وإسبانيا. وقد ولّد ذلك تأثيراً، ضمن كلّ من هذه الاتّحادات الفدراليّة، على الأدوار النّسبية للحكومات الفدراليّة وحكومات الولايات. إلا أنّ نزعةً أخرى ساهمت في الميل نحو الأنظمة الفدرالية المتعدّدة الطّبقات، فزادت من الاهتمام بالحكومات المحليّة، جاعلةً دورها دستوريّاً في بعض الحالات، كما في ألمانيا والهند.
توزيع السّلطتين التّشريعيّة والتّنفيذيّة: لعلّ الصّفة الأساسية التي تميّز الاتّحادات الفدراليّة هي التّوزيع الدّستوري للصّلاحيات التّشريعيّة والتّنفيذية، وللموارد المالية. غير أنّ شكل توزيع السّلطات ونطاقه قد يتفاوت بشكلٍ هائل. ففي بعض الدّول، ككندا وبلجيكا، شدّد الدّستور على الصّلاحيات الحصرية بكلّ نظامٍ حكوميّ، فيما قامت بعض الدّول الأخرى، كالولايات المتّحدة وأستراليا وألمانيا والاتّحادات الفدرالية في أميركا اللاتينيّة، بتخصيص مناطق أساسيّة لتأثير صلاحيّات السلطتين معاً، حسب الدّستور. ومن جهةٍ، تقع المسؤوليّة التّنفيذيّة تجاه مسألةٍ معيّنة، عموماً، في بعض الاتّحادات الفدرالية كالولايات المتّحدة وكندا وأستراليا، على عاتق النّظام الحكومي نفسه الذي يتولّى المسؤوليّة التّشريعيّة تجاه تلك المسألة. أمّا من جهةٍ أخرى، ففي العديد من الاّتحادات الفدراليّة الأوروبيّة، كألمانيا والنّمسا وسويسرا خاصّةً، يتضمّن الدّستور بنداً شرطيّاً يخصّ الولايات بإدارة معظم التّشريعات الفدراليّة. وهكذا، من حيث الصّلاحيات التّشريعية، تعتبر ألمانيا مثلاً أكثر مركزيّة من كندا، لكنّها أكثر لامركزيةً منها من حيث الصّلاحيات التّنفيذيّة.
وتختلف الاتّحادات الفدرالية في ما بينها أيضاً من حيث توزيع السّلطات الضّرائبيّة ومصادر الدّخل. فضلاً على ذلك، فهي تختلف في توظيف الحوالات الماليّة بما يخدم الوحدات المكوّنة، وفي درجة تضمّنها شروطاً أو خلوّها منها، ممّا يؤثّر في اعتماد الوحدات المكوّنة النّسبيّ على الحكومة الفدرالية. (تتمّ معالجة هذه النّواحي المالية بتعمّق خلال جلسات المؤتمر حول الفدراليّة الاقتصاديّة والماليّة.)
وإلى جانب هذه التّفاوتات المهمّة في شكل توزيع السّلطات والموارد التّشريعيّة والتّنفيذيّة، تنوّعت الاتّحادات الفدرالية تنوّعاً عظيماً في ما يتعلّق بالنّطاق الفعليّ للمسؤوليّات المحدّدة لكلّ طبقةٍ حكوميّة. أمّا النّتيجة الواضحة، فقد كانت اختلافاتٍ واسعة بين الاتّحادات الفدراليّة، في درجات المركزيّة أو انعدام المركزيّة. ومع أنّ المجال غير مفتوحٍ أمام جدول مقارنة شامل في هذه الحالة، لكن إن تناولنا مجموعةً تمثيليّة من الاتّحادات الفدرالية، تجدر الإشارة إلى أنّ النّفقات الحكوميّة الفدرالية (بعد الحوالات) كنسبةٍ من مجموع النّفقات الحكوميّة على صعيد الفدرالية والولاية والمحلّة، وبصفتها مؤشراً واسعاً على نطاق المركزيّة النّسبية، تراوحت عام 1996 كالتّالي: ماليزيا85,6 ؛ النّمسا 68,6؛ إسبانيا 68,5؛ الولايات المتّحدة 61,2؛ الهند 54,8؛ أستراليا 53,0؛ ألمانيا 41,2؛ كندا 40,6؛ سويسرا 36,7؛ الاتّحاد الأوروبي 2,5 (المصدر: R.L. Watts, The Spending Power in Federal Systems: A Comparative Study, 1999, p. 53).
التّناسق أو اللاتناسق في توزيع السّلطات على الوحدات المكوّنة: في معظم الاتّحادات الفدرالية، يعتبر التّوزيع الرّسمي للصّلاحيات على الوحدات المكوّنة متناسقاً. في المقابل، تجدر الإشارة إلى أنّ الضّغوطات على الحكم الذّاتي المستقل في بعض الوحدات المكوّنة هي أقوى تأثيراً منها في البعض الآخر، ممّا دفع بالاتّحادات الفدرالية التي تشهد هذه الحالة إلى اعتماد بعض التّدابير أو الممارسات الدّستورية غير المتناسقة. وتضمّ الأمثلة الاتّحادات الفدرالية الكندية، والهندية، والماليزية، والبلجيكية، والإسبانية، والروسية، فضلاً عن الاتّحاد الأوروبي. ويمكن التّمييز في الدّستور بين نوعين من حالات عدم التّناسق، أحدهما بندٌ شرطيّ يتعلّق بحالة عدم تناسق دائم بين الوحدات المخضرمة ضمن اتّحاد فدرالي. وقد حدث ذلك في كندا والهند وماليزيا وبلجيكا. أمّا في الحالات الأخرى، كما في إسبانيا والاتّحاد الأوروبي، فقد اعتبرت التّدابير اللامتناسقة تدابير انتقالية، ترمي إلى بلوغ استقلالية أكثر اتّساقاً في نهاية الأمر، إنّما وفق "سرعاتٍ متفاوتة". ويفترض تحليل الأمثلة المختلفة عن حالة اللاتناسق ضمن الاتّحادات الفدرالية أنّ التّدابير اللامتناسقة قد تمسي معقّدة ومثيرة للنّزاع، كما تبيّنه الجهود المبذولة في كندا خلال العقود الثّلاثة الأخيرة، من أجل تعزيز استقلال الكيبك. لكنّ التّجارب أفادت أنّ اللاتناسق الدّستوري هو السّبيل الوحيد لحلّ الخلافات الحادّة في بعض الحالات، أي حين يكون الدّافع إلى اللامركزيّة ضمن نظامٍ فدراليّ أكبر في بعض المناطق، منه في البعض الآخر.
طبيعة المؤسّسات الفدراليّة العامّة: فيما يشكّل تأسيس الوحدات الإقليمية التي تتمتّع بالحكم الذّاتي، دستوريّاً، ميزةً أساسية من مميّزات الاتّحادات الفدراليّة، بهدف التّوفيق بين المجموعات المتنوّعة، فإنّ طابع التّمثيل والتّشارك في السّلطة ضمن المؤسّسات الفدراليّة مهمّ أيضاً بالنّسبة لقدرة الاتّحادات الفدراليّة على إدارة المجموعات المتنوّعة ومصالحتها. غير أنّ التّفاوت الحاسم بين الاتّحادات الفدرالية يبقى العلاقة التّشريعية-التّنفيذيّة ضمن المؤسّسات المشتركة العامة. وتتّخذ هذه العلاقة أشكالاً مختلفة، كفصل السّلطات في البنية الرّئاسية-التّشريعيّة في الولايات المتّحدة ومعظم الاتّحادات الفدرالية في أميركا اللاتينية، والولاية المحدّدة في الجهة التّنفيذية والتشاركيّة في سويسرا، والاندماج التّنفيذي-التّشريعي مع مجالس الوزراء البرلمانية المسؤولة في كندا، وأستراليا، وألمانيا (مع بعض التّعديلات)، والهند، وماليزيا، وبلجيكا، وإسبانيا، والنّظام الرّئاسي-البرلماني الهجين في روسيا. وقد صاغت هذه الأشكال المختلفة طابع السياسات والإدارة، ودور الأحزاب السياسية في بناء الائتلافات وتحقيق الإجماع ضمن المؤسّسات المشتركة في هذه الاتّحادات الفدراليّة. كما أثّرت على طبيعة العلاقات الحكوميّة الدّوليّة. فضمن الاتّحادات الفدراليّة البرلمانية، مثلاً، تتسبّب النّزعة العامة إلى هيمنة مجلس الوزراء، عادةً، بإثارة مسألة "الفدرالية التّنفيذيّة"، حيث تقوم الجهة التّنفيذيّة في حكومات الاتّحاد الفدرالي بإجراء معظم المفاوضات.
ومن المسائل المهمّة مضامين البنود الشّرطيّة الخاصّة من أجل التّمثيل المتناسب للمجموعات المتنوّعة في السّلطة التّنفيذيّة الفدرالية، والهيئات التّشريعية (المجالس الثّانية خاصّةً)، والخدمات العامة، والوكالات. وبالنّظر إلى المجالس الفدرالية الثّانية، تعتبر الوحدات المكوّنة في بعض الاتّحادات الفدرالية ممثََّلة بشكلٍ متساوٍ، فيما التّساوي الدّقيق معدوم في البعض الآخر، على حساب ميزانٍ ترجح كفّته لصالح الوحدات الصّغرى (من أجل إصلاح تمثيلها الضّئيل في المجالس المنتخبة شعبيّاً). ففي بعض الحالات مثل الولايات المتّحدة وسويسرا وأستراليا، يُنتخب أعضاء المجلس الفدرالي الثّاني مباشرةً؛ أمّا في البعض الآخر مثل الهند والنّمسا، فتنتخبهم الهيئات التّشريعيّة في الولاية. وفي ألمانيا، يتألّف مجلس النّواب الألماني (البندسرات) من مندوبين عن حكومات الولايات، فيما تضمّ حالاتٌ أخرى كبلجيكا وإسبانيا وماليزيا مزيجاً من الاختيارات. وقد تختلف السّلطات النّسبية للمجالس الفدرالية الثّانية أيضاً، فتميل إلى أن تكون أضعف في الاتّحادات الفدراليّة البرلمانية، حيث يكون مجلس الوزراء مسؤولاً عن المجلس المنتخب شعبيّاً.
عند مقارنة الاتّحادات الفدرالية والكونفدرالية، تجدر الإشارة إلى أنّه في الحالة الأولى، حيث ينتخب جمهور النّاخبين الهيئة التّشريعية والحكومة الفدراليّتين مباشرةً فتكونان مسؤولتين أمامه، لم تواجه الحكومات الفدرالية صعوبةً كبيرة في تأمين دعم المواطنين. أمّا في الاتّحادات الكونفدرالية، كالاتّحاد الأوروبي مثلاً، فإنّ طابع المؤسّسات العامة الحكوميّ الدّولي، وعلاقتها غير المباشرة مع جمهور النّاخبين، قد أدّيا إلى اتّهامها بتجسيد "العجز الدّيمقراطي". بالفعل، تشير الضّغوطات ضمن الاتّحاد الأوروبي، الهادفة إلى تقليص العجز الدّيمقراطي، من خلال تعزيز دور البرلمان الأوروبي، وزيادة مدى تصويت الأكثريّة ضمن المجلس، إلى اتّجاه الاتّحاد نحو المزيد من الفدراليّة والتّخفيض من الكونفدراليّة في طابعه. وقد أثارت هذه التّجربة السّؤال عن أرجحيّة الأنظمة الكونفدراليّة في كونها أنظمة انتقاليّة لا دائمة، بالنّظر إلى هيمنة المثاليّات الدّيمقراطيّة المعاصرة.
دور المحاكم: باستثناء سويسرا حيث يلعب الاستفتاء الشّعبي التّشريعيّ دوراً مهمّاً في إصدار الأحكام القضائيّة، من خلال التّعريف بحدود الصّلاحية الفدراليّة، تعتمد معظم الاتّحادات الفدراليّة والاتّحاد الأوروبي أيضاً على المحاكم كي تؤدّي الدّور القضائي الأوّل، من خلال تفسير الدّستور وتكييفه وفق الظّروف المتغيّرة. لكنّ هذه الحالة لا تخلو من التّفاوتات أيضاً. ففي بعض الاتّحادات الفدراليّة، حيث يتمثّل النّموذج الأساسي بالولايات المتّحدة- لكن مع إمكانيّة اعتبار نماذج أخرى ككندا، وأستراليا، والهند، وماليزيا، وبعض الاتّحادات الفدراليّة في أميركا اللاتينية- تصدر محكمةٌ عليا الأحكام القضائيّة النّهائيّة بالنّسبة لكلّ القوانين. أمّا في البعض اللآخر، فتوجد محكمةٌ دستوريّة فدراليّة متخصّصة في تفسير الدّستور. ومن الأمثلة على ذلك، يرد ذكر ألمانيا، وبلجيكا، وإسبانيا. فتبذل هذه البلدان جهوداً ملحوظة، في الغالب، لصون الاستقلال من تأثير المحكمة العليا أو الدّستوريّة. ويشهد عددٌ من الحالات جهداً تفرضه المستلزمات الدّستوريّة أو الممارسة، من أجل ضمان إجراء التّمثيل الإقليمي في المحكمة العليا.
الحقوق الدّستوريّة: إنّ الاتّحادات الفدراليّة، في الأساس، شكل إقليميّ من التّنظيم السياسي. من هنا، في سبيل حماية المجموعات المتميّزة أو الأقليّات، يتمّ اللجوء إلى هذه الطّريقة الفضلى حين تكون هذه المجموعات والأقليّات متمركزة جغرافيّاً، بطريقةٍ تخوّلها بلوغ الحكم الذّاتي كأكثريّة ضمن وحدةٍ إقليميّة في الحكومة. لكن نادراً ما يتمّ توزيع السّكان فعليّاً في أقاليم محدّدة ودقيقة. فعلى أرض الواقع، ليس من الممكن تفادي بعض وحدات الأقليّات المتداخلة في الوحدات الإقليمية، ضمن سائر الاتّحادات الفدراليّة. من هنا، تجدر الإشارة إلى توفّر ثلاثة أنواع من الحلول، حيثما تواجدت الأقليّات المتداخلة الهامّة. ينصّ النّوع الأوّل على إعادة رسم حدود الوحدات المكوّنة، بشكلٍ يتيح لها التّوافق مع المجموعات اللّغوية والإثنية المركّزة. أمّا الأمثلة على ذلك، فهي إنشاء إقليم جورا Jura في سويسرا، وإعادة تنظيم حدود الولايات في الهند عام 1956 وبعد ذلك، وتفويض السّلطة التّدريجي في نيجيريا من ثلاثة أقاليم إلى ستّ وثلاثين ولاية. وتتكوّن المقاربة الثّانية من تعيين مسؤولية خاصّة في الحكومة الفدرالية، يتولاها حارس الأقليّات المتداخلة إقليميّاً الذي يحمي هذه الأخيرة من أيّ قمعٍ يحتمل أن تمارسه أكثريّةٌ إقليميّة. وقد أدرج عددٌ من الاتّحادات الفدرالية هذه البنود الشّرطيّة في تشريعاته، لا سيّما في ما يتعلّق بحماية سكّان البلاد الأصليّين القدماء.
أمّا المقاربة الثّالثة والأكثر انتشاراً من أجل حماية الأقليّات المتداخلة إقليميّاً، فنصّت على دمج سلسلةٍ شاملة من حقوق المواطنين الأساسية في الدّستور، كي تفرضها المحاكم. ويظهر هذا المخطّط حاليّاً في معظم الاتّحادات الفدراليّة، باستثناء أستراليا والنّمسا. وبالنّسبة إلى تضمينات حقوق المواطنين هذه، ودور المحاكم في ما يتعلّق بها، فيتناولها بالتّفصيل بحثٌ مستقل عن خلفية الدّولة في هذا المجال، وجلسة عن المواطنية والتّنوع الاجتماعي، في هذا المؤتمر.
العلاقات الحكوميّة الدّولية: فرضت حتمية التّداخل والاتّكال المتبادل ضمن الاتّحادات الفدراليّة، خلال ممارسة حكوماتها لسلطاتها الدّستوريّة، عموماً، تعاوناً وتنسيقاً واستشارات حكوميّة دوليّة واسعة النّطاق. وقد خدمت هذه الإجراءات وظيفتين أساسيتين هما: حلّ النّزاعات، وتأمين وسيلة للتّكيّف العمليّ والظّروف المتغيّرة. من هنا، عالج هذا المؤتمر المؤسّسات والإجراءات اللازمة لمثل هذه التّفاعلات، بكلّ ما في الكلمة من معنى، من خلال سلسلةٍ مستقلة من الجلسات حول موضوع العلاقات الحكوميّة الدّولية. ولم تتمّ الإشارة إلى هذا الموضوع في البحث الحاليّ إلا للفت الانتباه للتّفاوتات بين الاتّحادات الفدرالية في ظلّ هذه الإجراءات الحكومية الدّولية، لا سيّما في ما يتعلّق "بالفدرالية التّنفيذية" التي ترمز إلى معظم الاتّحادات الفدرالية البرلمانية من جهةٍ. أمّا من جهةٍ أخرى، فيتعلّق الأمر أيضاً بطابع العلاقات الحكوميّة الدّولية المتعدّد الأوجه في الاتّحادات الفدراليّة التي تشهد فصلاً بين السّلطة التّنفيذيّة والهيئات التّشريعيّة، ضمن كلّ حكومة. فتؤثّر هذه التّدابير المختلفة على مشاركة الوحدات الإقليمية الحكومية نفسها، بفعالية، في تقسيم السّلطة فدراليّاً.
5- الاستنتـاجـات Conclusions
تشير نجاحات الاتّحادات الفدراليّة وإخفاقاتها، على مدى نصف القرن المنصرم، إلى خمسة دروس مهمّة تتعلّق بقدرة الاتّحادات الفدراليّة، والأنظمة الفدرالية بشكلٍ أوسع، على مصالحة الفروقات الاجتماعية وإدارتها.
أوّلاً، في إطار مسرح الأحداث العالمي المعاصر، توفّر الاتّحادات الفدراليّة التي تجمع بين الحكم المشترك والحكم الذّاتي طريقةً عمليّة للجمع بين فوائد الوحدة والتّنوّع، من خلال المؤسّسات التّمثيليّة. إلا أنّها ليست بالدّواء النّاجع لسائر أمراض البشريّة السياسية، وقد تعرّضت للعديد من الإخفاقات الهامّة التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار، أبرزها تقسيم الاتّحاد الفدرالي في الهند الغربية، وروديزيا ونياسالاند، والباكستان، والاتّحاد السّوفياتي، وتشيكوسلافاكيا.
ثانياً، اعتمدت درجة فعالية الاتّحادات الفدرالية على مستوى ازدياد مدى القبول العام للحاجة الدّاعية إلى احترام المعايير والبنى الدّستورية، وحكم القانون.
ثالثاً، من العناصر التي لا تقلّ أهميّةً بالنّسبة لسير عمل الاتّحادات الفدراليّة الفعّال هو تطوّر الإيمان والثّقة المتبادلين بين المجموعات المختلفة ضمن الاتّحاد الفدرالي، والتّشديد على روح التّسامح والتّسوية.
رابعاً، جادل بعض النّقاد أنّ الاتّحادات الفدراليّة ميّالة إلى عدم الاستقرار والانفصال، محتجّين بأمثلةٍ عن الانفصالات والتّجزؤات في الاتّحاد الفدرالي في الهند الغربية، وروديزيا ونياسالاند، والباكستان، والاتّحاد السّوفياتي، وتشيكوسلافاكيا. لكن تجدر الإشارة إلى أنّ كلّ هذه الحالات الفاشلة من الاتّحادات الفدراليّة قد وقعت حيثما كانت المؤسّسات الدّيمقراطيّة ضعيفة أو غائبة. ويمكن عزو فشلها إلى طابعها غير الدّيمقراطي، أكثر من طابعها الفدرالي. فبالفعل، لم يشهد التّاريخ أيّة حالةٍ من تحلّل الاتّحادات الفدرالية الدّيمقراطيّة الحقيقيّة، مهما كانت متنوّعة. فيفرض هذا أنّ العمليّات الدّيمقراطية الكاملة هي شرطٌ أساسي لقيام اتّحادٍ فدراليّ فعّال.
خامساً، من الأرجح أن يرتبط مدى تمكّن الاتّحاد الفدراليّ من التّوفيق بين التنوّعات السياسية، لا بالتّدابير الفدرالية المعتمدة وحسب، بل بإمكانية تعبير الشّكل الخاصّ أو المختلف للاتّحاد الفدرالي عن رغبات المجتمع المعنيّ المحدّد ومتطلّباته، بصورةٍ مناسبة أيضاً. وكما يشدّد هذا البحث، يشهد تطبيق فكرة الفدراليّة عامةً، أو حتّى ضمن فئةٍ أكثر تحديداً من الاتّحادات الفدراليّة، تفاوتاتٍ ممكنة عديدة. في نهاية الأمر، يتضمّن تطبيق الفدراليّة مقاربةً احتراسيّة عمليّة؛ من هنا، فإنّ تطبيقها المتواصل في ظلّ الظّروف المختلفة أو المتغيّرة، خلال القرن الواحد والعشرين، قد يعتمد فعلاً على الأفكار الجديدة الإضافية في مجال تطبيقها هذا.
الجدول 1: أمثلة عن المجموعات المتنوّعة من التّدابير الفدراليّة
· صحيحٌ أنّ جنوب أفريقيا وإسبانيا هما اتّحادان فدراليّان شكلياً وعمليّاً، إلا أنّهما لم تعتمدا تسمية "اتّحاد فدرالي" في دستورهما.